الرسائل 2025 - الرسالة الأولى | يوم الإثنين 12/8/2025

 

 الرسالة الأولى 

مساء يوم الإثنين 

تاريخ 12/8/2025



 

أكتبُ إليكِ في هذه اللحظات المليئة بالوحدة، أكتبُ إليكِ وأنتِ أمامي كطيف، وأنتِ بداخلي كفكرة. أكتبُ إليكِ لتكوني حقيقة، وأتحدثُ إليكِ كلَّ يوم.

 

أكتبُ الآن على ضوء شاشة الحاسوب، هذا الحاسوب الذي لا ينطفئ، فهو موصولٌ طوال وقته بالكهرباء؛ فإن انقطعت الكهرباء في أي لحظة، ماتَ تباعًا. أكتبُ إليكِ في هذا المساء الساكن، وأنا أستمع للمطربة نازك وهي تغنّي وتقول:

 

"فأغرقتْ خيالَها كما تشاءُ وتشتهي،

واستغرقتْ في رقصةٍ ورقصةٍ لا تنتهي".

 

بصوتها الراقي ولحنٍ فاتن، أستمع وأنا في غرفتي التي تشبه صندوقًا مظلمًا، أغلقتُه على نفسي بإحكام، وليس في هذا الصندوق أيُّ مكانٍ للتنفس، فقد صنعته جيّدًا لئلّا يدخل إليه أي ضوء.

 

استيقظتُ متأخرًا في هذا الصندوق، فهو مقاومٌ لأضرار الزمن، يستطيع أن يجعل الأيام تمضي دون أن ندركها. استيقظتُ وخرجتُ من قبري هذا، كانت الساعة تشير إلى العاشرة والنصف. نظرتُ إلى الجوال بعينٍ واحدة، كما يفعل الآخرون حين يستيقظون. وقتٌ يليق بشخصٍ غير مكترث بما يحدث حوله.

 

كان الدوام هادئًا، أو بالأحرى أشبه بالحديث مع نفسك داخل مقبرة، ولا أحد حولك. أو كأنك تمشي بين جثثٍ حيّة. وكان المطر المنهمر يغسل الأرض من ذنوبها، ويغسل سيارتي المتسخة دومًا. السماء كانت حزينة، وكانت خائفة؛ تارةً ترتعد، وتارةً تهزّنا رعبًا. ذرفت الدموع حتى الساعة الرابعة عصرًا.

 

ذهبتُ لأكمل عملي وأعود إلى البيت. ذهبتُ إلى كل مكان، وكأنني حشرة تتحرك ببطء يمينًا، ثم تعود إلى طريقها بالبطء نفسه يسارً، تسير على خريطةٍ نالها القرف. حياةٌ ليس فيها جديد: تنهض، تتساءل، ثم تفعل الروتين نفسه الذي يجعلك كآلةٍ تقوم بما بُرمجت عليه، ثم تعود متعبًا مثقلاً، لتنسى ما أردت فعله.

 

عدتُ اليومَ مُستعجِلًا، لأن هناك جنازة أريد حضورها، جنازة قصتها محزنة؛ لفتاةٍ لم تتجاوز الخامسة من عمرها، ما زالت ملاكًا على هذه الأرض، لكن القدر خطفها من بين أحضان أمها. استعجلتُ في ارتداء ثيابي، ثم ذهبتُ مُسرعًا. هذه عادتي: أشعر دائمًا أنني تأخرت، وأن الوقت يجري وكأنه ملاحق من قبل مجرمٍ يريد قتله.

 

ركبتُ السيارة مع أخي. قال لي: "ألا تريد أن تستر رأسك بغترة؟" فهو يرى أنه من اللازم أن ألبس غترةً لأبدو بمظهرٍ جيّد، لكن هذا لا يهمني. أو أعتقد بأنه يقول: "ألا تريد أن تستر شعرك غير المهذّب، وأن تكون راقيًا لمرة؟" أتفهم رأيه، فأنا لم أزر صالون الحلاقة منذ مدة، أو لأكون صريحًا، منذ مدتين.

 

حضرتُ الصلاة، صلّينا العصر، وكان بجانبي طفلٌ شتّت انتباهي كثيرًا في الصلاة، فهو لم يتوقف عن الحركة. لديه فرط حركةٍ شديد، وكان يلعب بإصبعي الصغير في قدمي، الذي ما زال منذ ولادتي مرتفعًا عن الأرض، وما زال الصغار يتعجبون منه ويلهون به في الصلاة. كانوا يضغطون عليه ليلتصق بالأرض، ثم حين يبعدون أرجلهم الصغيرة يعود الإصبع للارتفاع إلى وضعه الطبيعي، فيصيبهم الجنون بعد المحاولة الثالثة، ويبدؤون بضرب قدمي مرارًا وتكرارًا.

 

صلّينا صلاة الميت، وخرجتُ أنتظر أخي، فأتى الأستاذ عادل وتحدث معي، وفتح موضوعًا ليس وقته الآن، كان عن الزواج. قلت له باختصار بعد أن تنهدت: "ساعدني، وسأتزوج قريبًا."

 

ذهبنا جميعًا إلى المقبرة. وقفتُ بعيدًا عنهم أتأمل. الجو مناسب، والسماء ملبدة بالغيوم، ما زالت حزينة، والهتان يضربنا برأفة. تأملتُ الجمعَ الغفير حول القبر: هناك من يبكي بصمت، وهناك من كانت عيناه تتحدثان شوقًا، وهناك من اختار أن يلبس نظارةً تخفي كل شيء.

 

عيونُ كل من في هذه المقبرة كانت تبحث عن شيء غير الموت، ربما عن الخلاص الذي ضاع منهم، أو عن سببٍ ليصرخوا. أو يتساءلوا لماذا ماتت وهي طفلة؟ تأملتُ كثيرًا، وترنّح فكري بين العدم والوجود، وتساءلت: أليس الموت مجرد نهاية تأتي للكثير كل يوم؟ وسيأتي هذا اليوم الذي يلوح فوقنا ويخرجنا من هذه المعاناة.

صمت عقلي عن التفكير. انتهى كل شيء، خالطتهم ببعض الدموع، وسلمتُ عليهم.

 

عدتُ إلى البيت. أكلتُ طعامًا بلا طعم، فمن سيأتيه رغبة بعد أن شاهد الحزن بعينيه. فكان الأكل غير جيد. ثم تغذيتُ بصفحاتٍ من رواية البرهان. يجب أن أنهيها، فهي الثالثة لهذا الشهر. توقفتُ عند الصفحة 125، كمن يترنّح على جرفٍ هاوٍ. هذه الرواية والتي قبلها تجعلني أرغب بالقراءة أكثر مما أشاهد الأفلام.

 

بعد أن أنهيت الصفحات، صلّيت المغرب، ثم انغمستُ في التفكير، ذلك المستنقع الذي لا قاع له. بعدها، ولأجل أن أجعل جسدي أفضل، رفعتُ أثقالي الموجودة في غرفتي الضيقة، أو صندوقي الميت، محاولًا تحويل جسدي إلى شيءٍ صلبٍ يتحمل الوجود.

 

بعد صلاة العشاء، خرجتُ لقضاء بعض الحاجيات مع صديقي أحمد. ذهبتُ لأول مكانٍ في جدول هذه الرحلة، وحدث هناك موقفٌ مضحك، لكن ضحكي كان أشبه بصرخة. ثم انطلقتُ إلى المكان الثاني لأشتري صناديق فلينية.

 

آه، هذه الصناديق! متعبة للفكر. تحدثتُ أنا وأحمد طويلًا عن أهمية راحتي النفسية حين أضع أي شيء في صندوق سيارتي، وهذه الفلينات صعبة، أجدها وكأنني أبحث عن توابيت لحفظ الأموات.

 

بعد ذلك، ذهبنا إلى سوق الخضار، حيث اشتريتُ برتقالًا، ووقفتُ أتأمل الناس: وجوهٌ متعبة، أيدٍ تمسك بخضارٍ رخيصة، عيونٌ تبحث عن رزقٍ أشبه بوجودٍ غير حقيقي. كلهم يجرون، لكن إلى أين؟ لا أحد يعلم ما سيحصل له. كلنا ننظر إلى الفراغ، ونتركه يملكنا، وحتى إن تحكمنا به، لن نجد ما يملؤه.

 

بعد سوق الخضار، وأثناء القيادة، ضللتُ الطريق. كنتُ أقصد محلًّا صغيرًا بجانب مقهى سلو لأشتري ميزان جرامات لقهوتي، لكنني وجدتُ نفسي في سمسا، لأن أحمد أراد أن يأخذ شحنته. وبما أنني أخطأتُ الطريق، قرر أن يستفيد من الأمر. لكن حدث ما لم يكن متوقعًا، شجارٌ تافه مع العامل.

 

لم أكن أنا من بدأ الشجار، كان أحمد من بدأه وأنهاه. لم أكن أعلم الموضوع جيدًا، وكل ما كنت أعلمه أن العامل لم يرضَ أن يعطي أحمد طلبيته. حصل شد وجذب بينهما، ثم أتى أحمد مستشاطًا غضبًا. وعندما أخبرني بالقصة، اختلفتُ معه، وهذا ما جعله يغضب مني، ويتلفظ بكلماتٍ كالسكاكين. أما أنا، فضحكتُ كثيرًا. نعم، ضحكتُ حتى اختنقتُ.

 

الخلاف كان مجرد رأيٍ عابر، لكن أحمد فعّل الشخصنة، وجعل الموضوع أنني ضده، وهذا ما لم يكن. كنتُ فقط أوضح أن الحق مع العامل، لأن وقت الإغلاق قد تم تجاوزه.

 

واصلتُ القيادة وأنا أضحك، لم أتوقف عن الضحك. وأخيرًا، وجدتُ المحل الصحيح، وابتعتُ الميزان بعد أن اشتريتُ ثلاثة منها ولم يناسبني أحدها.

 

في طريق العودة، مررتُ بـ كشك آن. لأول مرة أتذوق طعامه، بعد مراتٍ كثيرة من رؤية السيارات المكتظة أمامه. أكلتُ معكرونة بالباشميل وبرجر كرسبي. كانت لذيذة، لكنها غالية، ككل شيء جميل في هذا العالم.

 

انتظرتُ سبع عشرة دقيقة حتى حصلت على الطلب، وكانت الدقائق تمشي على جمرٍ من اللامبالاة. أكلتُ قليلًا، كما هي عادتي، في حديقةٍ خلف بلازا. كان المكان هادئًا جدًا، لكن هناك لحظاتٍ يبتلعني فيها صخب المدينة ويخترق هدوئي كسكين.

 

أعود إلى غرفتي. الكتب تنتظرني، والموت ينتظر الجميع، وأنتِ تنتظرين رسائلي. هي تفاصيل تافهة، ولكن هل تكفي هذه التفاصيل التافهة لأقول: "أنا موجود"؟

أخشى ألا تكفي أبدًا.


تعليقات