قصة قصيرة | في انتظار الموت
في
انتظار الموت
كان الوقت بعد منتصف الليل بقليل، وكانتِ السماءُ واضحةً ببدرٍ يحرسُ الليلُ
من تسابيحِ الشياطين. كانت الرياح النشطة تهيم بالبساتين، والنجومُ تتلألأُ وتكسِرَ
أوجاع كلِّ هائمٍ نال منه السهد، والشهب تتألق بلمعانها وتسقط حول كوخِ كاتبٍ
يعتزلُ عادةً في هذا الكوخ الكامن فوقَ هضبةٍ تملؤُها الزهور.كان الكاتبُ منقبض
النفسَ معدوم الاكتراثِ، عابس الوجه، هامدًا وسط أريكةٍ متهالكةٍ بكوخه المظلم.
يربض الهدوء على جسده، ورأسه يَسبح بنظره أعلى السقف الخشبي المتآكل يتراءى له في
الأفق صورة الماضي ويسمو عقله إلى آفاق بعيدة، وذراعيه المتمللان ممتدان نحو أطراف
الأريكة وأصابعه تشد على الصوف ليحكم بقبضته على ما برح به الزمان وينساب من بين
الأصابع كالذكريات، ويظهر هناك ضوء البدر الذي يصبغ أرض الكوخ لهيبًا ويعكس على
محجريه انسلاخ ذاته، ويُظهِر للسقف الساكن صدره العاري المليء بآثار المعاناة التي
جعلته لا يكترث.
كان كوخه باردًا ومن فرط الظلام لم
يعد يعرف شكل وجهه، لم يعد مألوفًا لنفسه، وكأنه يجثم بقبرٍ له بابٌ للجحيم، فالكوخ
لا يوجد به بضائع منزلية ولا يزدان بألوانٍ بهية، بل فارغٌ من كل شيء عدى تلك
المرآة التي وضعها في وسط الغرفة والتي بذاتها تعكس حسراته، وتلك الساعة المحطم
هيكلها ولكن ما يزال عقربها ينازع، يحبو وكأن الخطوات لم تعد قادرة على شم أثر
الثواني فيفقد الزمن خطه، وبعض الصناديق
المركومة فوق بعضها البعض والتي قد يئست انتظار الإنسان، فألفت تواجد الحشراتِ
فوقها.
انطوت الأفكار كالأكوان في جبينه، وكادت عيناه تغط في الخفاء، وأذناه
تمتدان تسمع صريخ الأموات، وهو كامنٌ وسط الأريكة، لا يبتسم أبدًا فهو يعلم بأن
الخطيئة الوحيدة التي لا يغفرها هي أن يبقى وحيدًا، جليس في وسط المكان لا يرى إلا
عالمٌ مهجورٌ مليٌء بالحكايات، ويرى أشباح ماضٍ قد تاهت في حاضره. لا أحد يعلم كيف
شعور أن يكون وحيدًا، وكأنه يبلغ أسباب النجاح ولا أحد هناك يصفق له، ينظر للفراغ
حتى يتدفى ببرودته الخاوية. الوحدة ألمٌ صامتٌ يبحر في أشيائِه ولا يشتفي منها،
الوحدة تزرع في سكان هذه الأرض ملكوت الموت، وتصنع نسيجًا رفيعًا تجتاح به دهاليز
النفس، وتُصفِدُ الحياة في سراديبها .
كان سابقًا يأتي إلى كوخه يتأمل ويدب الدفء بوجدانه فهناك طيفٌ كان يأتي معه
ليحضنه تارةً ويقبله بالأخرى، كان ينتقل من حالة اليقظة الكاملة إلى حالة الكرى
حينما يتواجد بحضنها. كانا يتناوبان على أن يجلسا على ذلك المقعد الخشبي المهتز
الموضوع خارج الكوخ على عتبات المدخل بجانب شجرة الصفصاف الخضراء، هذا المقعد لا
يستطيع أن يحملهما في آنٍ واحد. كان حينها يفعل خدعة بخلسة، فكان يقوم مبكرًا بكل
صباح ويذهب ليجلس أولًا وحينما تأتي إليه وتنظر له بلطف فيبادلها النظرات بكل حنان
فحينها تزهو عينيها وتسطع كالنجوم، وبكل تؤدة يلمس خنصرها بإبهامه وسبابته ويقبض
على يديها بتهمة امتلاك حسن الملائكة، ووضع تباشير الصباح على وجه شخصه الحزين.
يكمل ويصفد يديها اليسار بيديه اليمين وينظر لكل شيءٍ حوله ليرى كل كائنٍ هنا ينظر
إليه بسعادة، ذلك الطير الرابض على أملوجٍ مكسورٍ، وتلك الحشرة القابعة على شجرٍ منقعر،
وتلك النحل اللاتي يلقحن أزهار البساتين، كل هذه الحيوانات تشعر بسعادته فقد ملأت
قلبه الشاغر بكل شعور. إنه الحب، لا ريب بهذا. يهفو إليها ويحكم قبضته على يديها ليضع
يده اليسار أسفل فخذيها ويده اليمين تلتف حول جذعها ليرفعها عاليًا ويضعها على
حجره ليكونا كجسدٍ واحدٍ على المقعد المهتز. تظل هي خجولة ويحمر وجهها، فحينها يخفق
قلبها بقوة داخل جسدها الضعيف وفي تلك اللحظة كانت تتمتم وتبعث من فمها بكلماتٍ
محمومة تعاني من الاختناق تُبتَر فيها الجمل وتموت الكلمات، هكذا بدأت حياته
بطريقٍ لا يشكو من علل، وستنتهي بطريق مثقل به الفؤاد ويشوبه خلل.
يبدو أنه لم يعد يفكر في نفسه طوى
الدفاتر والكتب، لم يعد يفكر في أخذ محبرته التي كانت تأخذها وتلعب بها على جدران
الكوخ وترسم هنا وهناك، لم يعد يفكر في أخذ قلمه التي رسمت به على شفتيها
الجريحتين في آنٍ قديم. أصبح يفكر أن يرحل، فبعد تلك الدعة، وبعد ذلك اللين لم يعد
يعرف من يكون، ينتظر النهاية مثل الأخرين، ينتظر بلهفة أن يطرق الموت بابه لينتهي
الأسى:
يطرق يطرق
طق ... طق ... طق ...
روحٌ تُسحق
وعينٌ ترمق
وصوتٌ يشهق
يتمزق يتمزق
وفؤادٌ يخفق كالطارق
ويبقى ساكن يتحرق
ليجيب الطرق ويطفق يتحدق
يطلق شهقة ترياق
ويكتم أنفاسًا تتسلق
نحو الأفق البراق
ويبقى هامد
يحدق في المأزق
مَن هذا الساحق؟
مَن هذا الطارق؟
لا يجيب،
خائفًا أن يساق
إلى أشياءٍ غريبة،
خائفًا أن يبوح
بأسرار الجريمة،
خائفًا أن يجبر
على قول الحقيقة.
كان ليلًا مقمرًا، وضوء البدر يسطع على زجاج الشباك لينفذ وتتراقص حبات ضوئه
على سطح الغرفة، وتتمايل الستائر بعصف النسيم. ينظر لهذا المشهد ويرى به خوف
الحياة، يفوق من حالته ويتذكر بأنه قريبًا سيكون مدفونًا تحت رماد الموت. الموت
يمتص منه الحياة يطرق بابه، وتئن سنين حياتهِ، وتَنْحَب اللحظات شيئًا فشيئًا. بدأ
يسمع النهاية، يسمع خطواتٍ تحفر في الفراغ، سيلاقيه الموت داخل كونٍ من صمت، سكونٌ
في غارة سلب، طوفانٌ في لحظة شك، ربما الأحلام كانت جزءًا من وهم، فتهاوت وتهاوت
وتهاوت عليه بقاع الأرض.
بدأ الفرار
فأعاقه القدر وأثقله الخيار
ظمأٌ يُثار
يخلق في القلب دمار
فيموت وتبقى الآثار.
اريد التواصل معك لو امكن
ردحذف