الرسائل 2025 - الرسالة الثانية | يوم الأربعاء 20/8/2025
الأربِعَاء
السّاعة
الرَقمِية تُشير للرَابِعة والنِصف عصرًا.
أفكِّر بكِ، أنتِ ذلكَ الخيالُ الذي يُطاردني، يُريدُني أن أكتُب له، أن أعَيش بين كلمِاتي وأقُول ما يجرِي في لحظاتي؛ وما يختبئ بين تِلك السُطور، وفي الفَراغات التي تتسلل بَين الحُروف. يُريد خَيالكِ أن يعرف كلُّ شيء، ولن أُخفي عَنه شيئًا.
رُبَّما اليَوم،
حِين استيقظت، لم أكن سعيدًا؛ فخيالك لم يكن حاضرًا، بل كان بعيدًا، يسرح في جوّ
ماطر وسماء مُثقلة بالغيوم. كان المطر يهطل بخفة ورقة، يُشعر الجميع بالحب، إلا
أنني كنت أراقبه دون أن أشعر تجاهه بشيء؛ بل كان يملأني بغموض، كأنه المَطر يُرَاقِبني،
ويتتبع كل حركاتي.
نظرت إلى
القطرات المتساقطة على الأرض، وركزت بصري على نقطة واحدة؛ كان المطر ينهمر عليها
بلطف، ومع ذلك كانت القطرات تصنع ثقبًا في التراب، ليس غائرًا، ولكنه يبقى كجرح في
نظري.
أبعدت نظري
عن المطر وعدت أُحدّق في غرفتي؛ فوجدتها فارغة. وكنت حينئذٍ مُرهقًا، لا أدري من
أين جاء هذا الإرهاق؛ كان ملازمي منذ لحظة افتتاح عينيّ. يبدو أن حلمي كان شاقًا،
ولذلك كنت مُرهقًا.
هُناكَ
مَجموعةٌ منَ الأشخاصِ يحرُثون الأرض، يُجهِّزونها لِحصادٍ يأتِي بعد شَهر.
فموسِمُ الأمطارِ قد بَدأ، ولهذا يقضونَ وقتَهم في زَرعِ القَصَب، في يومٍ لَطيفٍ
تلهو فيه الشمس خلف حجابها، ويَحمِلُ الهواء رائحةَ الطينِ المبتَلّ.
أنظُرُ
بتمعُّن، فإذا بشخصٍ من بينهم يَتكِئُ على رُكْبَتِه بيدهِ اليُسرى، ويُطلِقُ
تنهيدةً عالية، عالية جدًا لِدرجة أنها تسلّقَت الفضاءَ وامتزجَت بهَواءِ الحَقل وصدحت.
تمعَّنتُ
فيه أكثر؛ ملامِحه مُتعبة، وجهُه مُسَوَّد، وابتسامَتهُ التي كَان يَعرِضُها على شَفتيه
باهِتة تكاد لا تُرى. صَغيرٌ في سِنِّه، لكنّه يَحمِل على كتفَيه أمال السِّنين.
كأنّ في صدرِه حِملًا لا يَبرَح، يطلِقُ مع كلّ تنهيدةٍ ما يَستطيع، ليُكمِل فقط يومَه.
بَعد لحظات،
تناولَ كوبًا يَبدو من مكانِي أنّه خشن الأطراف، شربَ منه بهدوء، كان لبنًا
طازجًا، لمحتُ بَقاياه تُبيِّضُ شَعراتِ شارِبِه الصغير. وكأنّه طَقسٌ سرّي،
يكرِّره كلّ عام: النَّهارُ يحمِلُ معه تنهِيدة التعب، والمساءُ يحمِلُ مَعه اللبن
الطازج.
سألني
الْخَيالُ بعدما سكنَ لِلْهُدُوءِ وقتًا طويلًا، ثمّ، وعلى حِين غرَةٍ، انبثقَ وانفجرَ
بالحديثِ. خرجَ أمامي هكذا، وفي تلك اللحظةِ كنتُ أُحدّقُ في الضَّبَابِ الكثيفِ
الذي يأكلُ الفراغَ شيئًا فشيئًا.
بدأَ
الخيالُ يَحشرِجُ بصوتهِ، وتنحنحَ ببطءِ ثمّ قالَ: «لماذا كلُّ هذا الصمت؟» ثم صمتَ
قليلاً، وأنا أتظُر للأمامِ بعينٍ مثقلةٍ وشاردةٍ، ثمّ أكملَ: «لماذا تتأملُ
كثيرًا ولا تتكلّم؟ حدثني، اكتب إليّ». كنتُ جالسًا على الصَّخْرَةِ البيضاءِ التي
أكلَها التعبُ مني، وقطعٌ من السحبِ تعبرُ أمامي وتخترقها شجرةُ سَمَرٍ عتيقةٌ قد
عاشتِ كثيرًا. استقمتُ وعدّلتُ بنطالي جيدًا، وبدأتُ أُعطي الخيالَ ملامحه: شعرًا
حريريًا أسودَ منسدلًا، عيونًا كالجنانِ، ووجهًا يفيضُ نعيمًا، ووجنتينِ
متورّدتينِ، وغُرةً صافيةً.
استمعتُ منه
كلماتٍ تحفلُ بالذكاءِ والرقةِ، وفجأة اخترق خيطًا وحيدًا من الشَّمسِ تلكَ السُحبَ
الكثيفة وضرب عينيَّ. أغمضتُ عينيَّ مسرعًا وحرّكتُ رأسي بحركاتٍ غيرِ متناسقةٍ،
كأنِّي أَهذي. بين ثوانٍ رقصَ فيها رأسي يمينًا وشمالًا باتجاهاتٍ لا أستطيعُ
تسميتها، اختفى النورُ، واختفى معه الْخَيال.
كانت لحظاتٍ مروِّعةً، وكنتُ أريدُ أن أقدّمَ أجوبةً؛ فقد كانت تلك
اللحظاتُ مزيجًا من أشياءَ شتّى: رغبةٌ تداهمني بفتاةٍ ما، وحاجةٌ لأن أمتلكَ
شخصًا لِي بذاتِي، وكلُّ ما لم أكنهُ بعدُ؛ مجرد بحثٌ عن من يفهمني كما أفهمُ
نفسي.
أتذكّر، نعم أتذكّر، قبلَ أيّامٍ
صديقًا استفزّني للحديثِ، أرسلَ لي اقتباسًا، ثمّ كتبَ بعدَه: «عُكّازُ الذّاتِ في
خريفِ العمر.» وأردفَ قائلاً: «أنت في يَرعانِ شبابِك، م. فراس». في البدايةِ لم
أخفِ سروري لِمجرّدِ ذكرِ الحرفِ (الميم)، إذ إنّه يعبرُ عن جزءٍ مني؛ شيءٌ بذلتُ
سنينًا لأجله مهما طالَ السَّعي.
لقد استفزّ كلامُهُ فكري، ورددتُ بسرعة له، لكنّي الأن في هدوء لذا فكّرتُ
وأعدتُ الصياغة فكان هذا ما كتبتُ بعدَ التعديل:
عُكّاز الذّاتِ قد نهَشُهُ الاتّكاءُ المفرِط؛ لم يَبقى لي سوى خيالٍ
أترنّحُ به، كأنّي أربّتُ على كتفِ الوَهْمِ، كربيعٍ نُسِي خُضْرَتَهُ فباتَ
يتسكّعُ بين الفصولِ تائهًا بين حَرِّ صَيْفٍ وبَرْدِ شِتاءٍ ودفءٍ لا يكادُ
يُوجد.
الشبابُ ليس وَعْدًا، ولا هو كلُّ ما يهمّ؛ إنّها مرحلةٌ تعبرُكَ كما تعبرُكَ
رياحٌ قاسية، كما يعبرُكَ الألمُ الدفِين. يأخذُ الشبابُ حماسَنا ويتركُنا بأطرافٍ
مبتورةٍ، وأحلامًا جفت منابعُها. تصلُ إلى النهاية وتجدُ أنَّ الأيامَ قد مضت،
ووَصَلْتَ حَاجِزًا وَأنتَ لا تزالُ في منتصفِ الحياة. تمسكُ رئتيكَ بأنفاسٍ لا
تقدرُ على أن تجعلك تقضي ساعة، تمضي كمتشردٍ في حياةٍ يحضنها الوَهْمُ: حافيَ
القدمين، وملابسٌ مُهترِئةٌ مزقَتها الأيام.
تنتظرُ أن تركّبَ طقمَ أسنانٍ باقٍ في صمتٍ، مغمورٍ بماءٍ تغيّر لونه؛ كأنه
يرثي حالَك ويقول: "قد أكلتَ من الحياة، وأكلتْ منكَ الحياة كثيرًا؛ الآن
عليك أن تتجرّعَ الغيابَ، وتبلعَ العَدَم."
ثم ينتهي كلُّ شيءٍ.
الكَاتِب: فِرَاس إِبرَاهِيم.
تعليقات
إرسال تعليق